جريدة المجالس

عالمك الالكترونى لكل ما هو جديد معانا هتقدر تعرف كل الاخبار المحلية و الدولية من رياضية و سياسية و اقتصادية.

أسرة و مجتمع

كيف نجعل أطفالنا بشراً أذكى وأطيب؟

201412080921113

كتب أستاذ الفلسفة بجامعة نوتنجهم جريجوري كاري، مؤخراً في نيويورك تايمز يقول إنه لا يجدر بنا الزعم بأن الأدب يحسّن البشر؛ لـ”عدم وجود الدليل الكافي على أن الناس تصبح أفضل اجتماعياً أو أخلاقياً من خلال قراءة تولستوي” أو الكتب العظيمة.


والحقيقة أن الدليل موجود. فقد جاء في دراستين نشرتا في عامي 2006 و2009 لكل من ريموند كار أستاذ علم النفس بجامعة يورك بكندا وكيث أوتلي أستاذ علم النفس الفخري بجامعة تورنتو أن الأفراد كثيري الاطلاع على الأدب يكونون أقدر على تفهم غيرهم من الناس، والتعاطف معهم، والنظر إلى العالم من منظورهم. بل إن هذا الرابط تأكد بعدما بحث العالمان إمكانية أن يبدي البشر الأقدر على التعاطف ميلا إلى قراءة المزيد من الروايات. وفي دراسة في 2010، ظهرت نتائج مماثلة لـ كار بين الأطفال الصغار: إذ كلما كثرت القصص التي يقرؤها الأطفال، ازدادت رهافة قدراتهم العقلية على حدس نوايا الآخرين.

و”القراءة العميقة” ـ في مقابل القراءة السطحية التي نمارسها عبر الإنترنت ـ مهددة بالانقراض، وعلينا أن نتخذ الخطوات اللازمة لحمايتها مثل نفعل مع المباني أو الأعمال الفنية التاريخية، ففي اختفاء هذه الممارسة خطر على التطور العقلي والعاطفي للأجيال التي تنشأ على الإنترنت، وفيه خطر على استمرارية جانب أساسي في ثقافتنا، يتمثل في الروايات والقصائد وغيرها من أشكال الأدب التي يتذوقها من تمرست عقولهم على استيعابها.

وقد أظهرت البحوث الحديثة في علم النفس والأعصاب وغيرهما أن القراءة العميقة ـ البطيئة المستغرقة الثرية باستشعار التفاصيل والتعقيدات الأخلاقية والعاطفية ـ تجربة فريدة تختلف عن أي نوع آخر من فك شفرات الكلمات. وبرغم أن القراءة العميقة قد لا تستوجب كتاباً تقليدياً، إلا أن الحدود الكامنة ضمنياً في الصفحة المطبوعة تفضي بسهولة إلى القراءة العميقة. فليس في الكتاب روابط، وهذا يعفي القارئ من اتخاذ القرار (هل ينبغي أن أضغط على هذا الرابط أم لا؟) وهو ما يتيح له الاستغراق تماما في السردية المواجهة له.

وهذا الاستغراق يستند أيضاً إلى طريقة المخ في التعامل مع اللغة الثرية بالتفاصيل والإشارات والاستعارات، وذلك من خلال خلق تمثيل ذهني يعتمد على مناطق مخية تنشط في حال ظهور المشهد نفسه في الحياة الواقعية. كما أن المواقف العاطفية والمآزق الأخلاقية ـ وهي من لحمة الأدب ـ تمثل تدريبا أكيدا للمخ، إذ تدفعنا إلى ولوج عقول الشخصيات الروائية بل وتزيد ـ بحسب ما تشير الدراسة ـ من قدرتنا على التعاطف في حياتنا الواقعية.

ولا شيء من ذلك محتمل الحدوث ونحن نتنقل عبر الإنترنت. فنحن وإن أطلقنا نفس التسمية على الفعل نفسه، تبقى القراءة العميقة للكتب والقراءة الساعية إلى المعلومات (كالتي نمارسها عبر الإنترنت) فعلين شديدي الاختلاف، سواء في التجربة التي يوفرها كل فعل أو في القدرات العقلية التي يطورها كل منهما. وثمة أدلة كثيرة ومتزايدة تشير إلى أن القراءة عبر الإنترنت قد تكون أقل توريطاً للقارئ وإشباعاً له حتى في حالة “سكان الإنترنت الأصليين” digital natives الذين يألفون هذا الفعل تمام الألفة. ففي الشهر الماضي على سبيل المثال نشرت الأمانة الوطنية لشئون التعليم في بريطانيا نتائج دراسة أجريت على قرابة خمسة وثلاثين ألف شخص تتراوح أعمارهم بين الثامنة والسادسة عشرة. قال الباحثون إن 39% من الأطفال والمراهقين يقرأون يومياً باستخدام آلات إلكترونية، و28% فقط يقرأون يومياً من خلال مواد مطبوعة. وتبيَّن أن احتمال قول قراء الشاشات إنهم يستمتعون بالقراءة “جدا” يقل ثلاث مرات عن المجموعة الأخرى، وإن احتمال أن يكون لديهم كتاب مفضل يقل أيضاً ثلاث مرات. تبيَّن أيضاً أن احتمال أن يكون “قراء الشاشات فقط” قراءً فوق المتوسطين يقل مرتين عن قراء المواد المطبوعة، أو القراء الذين يجمعون بين القراءة عبر الشاشة وعبر الورقة المطبوعة.

ولكي نفهم لماذا ينبغي لنا الاهتمام بكيفية قراءة الصغار، وليس فقط بكونهم يقرأون مهما تكن وسيلة القراءة، فمن المهم أن نعرف القليل عن كيفية نشوء وتطور فعل القراءة. تلاحظ ماريان وولف مدير مركز بحوث اللغة والقراءة بجامعة تافتس ومؤلفة كتاب “بروست والحبّار: قصة وعلم المخ القارئ” أن “البشر لم يولدوا ليقرأوا”. فخلافا للقدرة على الفهم وإنتاج اللغة المنطوقة، وهي القدرة التي تتكشف في الإنسان بموجب برنامج تمليه عليه جيناته، فإن على كل فرد أن يكتسب بمشقة القدرة على القراءة. فـ “الدوائر القرائية” التي نقيمها في رؤوسنا تأتي من بناءات في المخ نشأت لأغراض أخرى غير القراءة، وهذه الدوائر قد تضعف أو تقوى بحسب كيفية ووتيرة استخدامنا لها.

والقارئ العميق، الآمن من التشتيت والمنتبه لدقائق اللغة، يدخل في حالة يشبِّهها فكتور نيل ـ أستاذ علم النفس في دراسة له عن سيكولوجيا القراءة ومتعها ـ بنشوة النوم المغنطيسي. لقد تبيّن لـ نيل أن القراء الذين يستمتعون بالتجربة أكثر، تقل سرعتهم في القراءة. والمزيج المؤلف من سرعة وطلاقة فك شفرات الكلمات، وبطء وتمهل التقدم عبر الصفحة، يوفر للقارئ العميق وقتا لإثراء قراءته بالتأمل، والتحليل، والربط بين ما يقرأ وبين ذكرياته وآرائه. وتمهله الوقت لإقامة علاقة حميمية مع الكاتب، فيشتبك كلاهما في حوار ممتد ومتوهج كالذي ينشأ بين حبيبين.

وهذه القراءة ليست القراءة التي يعرفها الكثير من الشباب. فقراءتهم براجماتية أداتية، وهنا يتجلى الفارق بين ما يسميه الناقد الأدبي فرانك كيرمود بـ “القراءة الشهوانية” و”القراءة الروحانية”. فلو سمحنا لأبنائنا أن يتصوروا أن القراءة الشهوانية هي القراءة، ولو لم نفتح لهم باب القراءة الروحانية من خلال الإصرار المبكر على الحزم والتدريب، فسوف نسلبهم تجربة ممتعة، بل ونشوة حقيقية، لن يعرفوها مطلقا بطريقة أخرى. وسوف نكون حرمناهم من تجربة تفضي إلى الاستنارة والتسامي وتجعلهم بشرا أفضل وأرحب. ولقد لاحظ بعض من راقبوا ارتباط الشباب بآلات القراءة الرقمية، أن علينا أن “نقابل الأطفال في أماكنهم، وحيثما هم” فعدّلوا من آليات تعليمهم، وكيّفوها مع الشاشات، وهذا خطأ. فما نحن بحاجة حقا إليه هو أن نبيِّن لهم بالأحرى أن ثمة مكانا آخر لم يغامروا بالذهاب إليه، مكانا ما لهم أن يضعوا فيه أقدامهم إلا من خلال القراءة العميقة.