جريدة المجالس

عالمك الالكترونى لكل ما هو جديد معانا هتقدر تعرف كل الاخبار المحلية و الدولية من رياضية و سياسية و اقتصادية.

أسرة و مجتمع

مشوار “عم حسن” المقدس.. 29 عاما ينادي لصلاة الفجر في شارع فيصل

 

قبل آذان الفجر بنحو 30 دقيقة، يشق شارع فيصل بالجيزة، رجل ستيني، يتحرك ببطء متكئًا على عكازه، ينظر إلى السماء مبتسمًا، يُبسمل ويحوقل، قبل أن يصيح “اصحى يا نايم وحد الدايم، الصلاة خير من النوم، الصلاة يا مؤمنين الصلاة”، يصدح صوته في الأعالي، فيخرج قاطنو الشارع العتيق من الشرفات ملوحين له بالسلام، يقترب منه المارة لتقديم يد العون بالسير معه، يقف الجالسون على المقاهي “تعالى ارتاح شوية يا عم حسن”، غير أنه يرفض بأدب جم ويستكمل مسيرته وسيرته وحيدًا كما اعتاد منذ أكثر من 29 عاما، الفترة التي قضاها في السير كل ليلة لنداء الناس وتذكيرهم بموعد صلاة الفجر، لهذا الشيخ قصة لابد أن تروى، وأن تبقى.

في البدء كان “عم حسن” صبيًا، يقطن بجوار مسجد عمرو بن العاص، ينتبه لصوت بديع من شيخ كبير، يخرج قبل صلاة الفجر في فترة السبعينيات تجاه كوبري خشبي يفصل بين منطقتي الملك الصالح ومارجرجس، يقف عليه وينادي للصلاة، يحث أهالي منطقته للاستيقاظ وتلبية نداء الآذان، وقع الصبي حينذاك في غرام هذا الصوت، مسه شعور لم يفقه سره حينها، تتهلل أساريره عندما يتذكر “كان اسمه عم عبده.. حسيت إني عايز أعمل زيه في يوم من الأيام” احتفظ بالحلم داخله، ينمو مع الوقت، في انتظار مشيئة الله.

كَبر الصبي، أنهى دراسته الثانوية، عمل بأحد المصانع بمنطقة حلوان، تزوج، انتقل إلى بولاق الدكرور، ومنها إلى شارع فيصل، بالقرب من جامع حمد، سنوات تمر، لكنه لم ينسَ الحلم الكامن في قلبه، غير أنه لم يكن مستعدًا لتلك الخطوة، حتى أتاه الأمر في 31 ديسمبر من عام 1986، تلمع عيناه عند استحضار اللحظة المدهشة “معرفش حصلي إيه.. جالي حاجة جوايا إني لازم أنزل. حسيت إنه يوم مليان معاصي، قولت أبدئه بطاعة”.

دون أن يعلم أحد -من أهل بيته- وجهته، ارتدى “حسن” ملابسه على عَجل، نزل إلى الشارع مهرولًا، مدفوعًا بإحساسه بضرورة اتخاذ الخطوة الآن، حتى وصل إلى جامع حمد، نظر حوله، ودون أن يشعر صاح “الصلاة يا مؤمنين الصلاة، الصلاة يا موحدين بالله، سبحان الواحد الأحد، سبحان الفرد الصمد، سبحان من رفع السماء بلا عمد”، فيض من الله على لسانه، وسكينة أمسكت بقلبه، راحة من حيث لا يحتسب تملكته، صار قلبه خفيفًا، وحركته أخف، وصوته أعلى لكنه خالي من الغلظة “الناس بقيت تصرخ فيا يا مجنون، يا عم روح نام”، صلى الفجر يومها وعاد إلى منزله قرير العين.

لم يُفلت “حسن” وهو مايزال في سن الثلاثين، حلاوة التجربة، قرر تكرار فعلته يوميًا، غير عابئًا بالمضايقات التي تؤرق وصاله مع السماء والناس. يتلمس لحيته البيضاء عائدًا بذهنه لسنوات مضت “الشرطة وقفتني في الأول أكتر من مرة” سألوه عن سر تحركه في هذا التوقيت دائمًا بشارع فيصل، ولأي جماعة أو طريقة ينتمي “قولتلهم مش تبع حد، أنا مع الله”، لم يجدوا منه ضررًا، ويبدو أنهم أجروا تحرياتهم عنه فلم يكتشفوا عنه سوء-وفق حديثه، فتركوه وشأنه.

على مدار سنوات، اعتاد سكان فيصل على صوت الرجل، صار طقسًا يوميًا في حياتهم، لكن لا أحد يعلم سِره “أسرتي فضلت فترة متعرفش الموضوع دا، لحد ما الناس قالولهم.. كنت عايزها بيني وبين ربنا” يذكرها بخجل، انتشرت الحكايات والشائعات عنه، قيل إنه كاد أن يفقد أحد أبنائه، ونذر لله أن يخرج للناس لحثهم على الصلاة في حالة شفاءه، وأن الله مَنّ عليه بطلبه “وفيه ناس قالت إني كنت صايع وفلاتي ومقطع السمكة وديلها، وربنا تاب عليا”، يضحك عم حسن “دانا بنام من العشا، أبقى كدا إزاي”، لكنه لم يُفسد أبدًا خيالاتهم، لسببين أحدهما طريف.

يصمت عم حسن للحظات مستجمعا صوته “مكنتش عايز أتكلم عن نفسي والناس تنشغل بحكايتي” خرجت كلماته برهبة وتواضع، أما الثاني، فهو محاولة لتفادي أية مشاكل مع “المزيكاتية” الجالسين على المقاهي في انتظار فقراتهم بالكازينوهات المنتشرة بشارعي الهرم وفيصل “كان اللي يقول عليا صايع قديم، أضحك وأقولهم مفيش داعي للكلام دا” كانوا يخشونه قلقًا من تاريخه التخيلي في عالم “الصياعة” فيتركونه دون أذى “لو كانوا عرفوا إني مؤدب وغلبان هيزعلوني”.

لم يترك الرجل سُنته إلا قليلا، مرة عندما زار مكة المكرمة للحج “وحصلي موقف عمري ما أنساه هناك” يتأمل صورة أعلى رأسه للكعبة قبل أن يسرد أنه أثناء تحركه في محيط الحرم المكي، فوجئ باقتراب شابين منه “قالولي انت هنا يا عم حسن.. طيب مين هيصحي الناس في فيصل دلوقتي؟” قبل أن يضحكا ويختفيا في الزحام. “المرات التانية لما بيكون فيه مشاكل في البلد” يهز رأسه بأسى، يروي بقائه في منزله تلك الأيام، يرغب في النزول لكن يمنع نفسه، يعلم أن البلاد على صفيح ساخن، وأن الناس قد لا تتقبل شيء في تلك الفترات “بكتفي إني أنزل أصلي وأطلع على طول”.

ذات ليلة في العام الماضي، أثناء سير “عم حسن” في شارع فيصل، شعر بألم في ركبته، توقف قليلا، التقط أنفاسه، واستكمل طريقه، غير أن الوجع اشتد “الخشونة بدأت تضايقني”، منعته لأيام من النزول لأداء خطواته المُحببة، عَلِمّ أحدهم بالأمر، فنشر على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” بصفحة خاصة بأهالي فيصل، صورة للرجل، مزيلًا إياها بكلمات عن قيمته، وسبب تغيبه عن عادته، لتنهال الدعوات في التعليقات، والحكايات التي جمعت قاطني الشارع مع عم حسن.

يحكي أحدهم أنه في عام 1988 شاهد عم حسن وهو يؤذن في الناس “كنت فاكر أنه على قده في التفكير”، اقترب منه، تحدث إليه، تعرف على جزء من قصته “عرفت حاجة.. إن أنا اللي على قدي”، طبيب عظام طلب الوصول إليه لعلاجه حبًا فيه، آخر يقول إنه كثيرًا ما يحكي لأولاده عن سيرة الرجل الذي يقطع شارع فيصل يوميًا من أجل الصلاة، لم يعرف الشيخ من نَشر صورته وعرّف الناس على مرضه، فوجئ بالأمر حينما تلقى اتصالًا هاتفيًا من أبناء شقيقه للاطمئنان عليه، نقلوا له ما ذُكر في حقه من الأهالي، يشخص الرجل ببصره نحو آية مُعلقة بغرفته “كل دا هبة من الله، أنا مبعملش حاجة، هو اللي بيطلعني وهو اللي بيوصل كلامي للناس”.

في الأيام الأخيرة، اشتدت آلام الركبة، صارت حركته بطيئة ثقيلة، عُرض على عدد من الأطباء، اقترحوا إجراء جراحة دقيقة لكنه يرفض. يلوح بيديه “العملية كبيرة ولو نجحت هحتاج أعملها تاني”. يتحسس الرجل موضع الألم “بقيت بتحرك بصعوبة”، غير أنه لايزال يخرج إلى شارع فيصل “نزلت في رمضان اللي فات كل يوم”. تخلى عن السير لمسافات طويلة لشدة تعبه “مش بمشي طبعًا زي الأول، بوصل لمنطقة قريبة وبرجع على طول”. يتغيب أحيانًا نظرًا لكبره سنه وصحته لكنه لا يتخلى أبدًا عن مشواره المقدس “لو قعدت هتعب أكتر.. أنا برتاح أكتر لما بنزل للناس أفكرهم بالصلاة”.