جريدة المجالس

عالمك الالكترونى لكل ما هو جديد معانا هتقدر تعرف كل الاخبار المحلية و الدولية من رياضية و سياسية و اقتصادية.

ثقافة و فن

الروح تدب مطرح ما تحب.. حكاية “مغتربة” اسمها “ندى”

كتبت-إشراق أحمد:

فراق الأهل، ترك موطن السكن، الانتقال إلى مكان أخر، وإن كان داخل البلد ذاته، هو أمر صعب، غير أن ندى القصبي اتخذت الموقف الأصعب، تركت عائلتها في بلد الهجرة “السعودية”، لتعود بمفردها إلى أرض الوطن “مصر”، بينما لم تبلغ بعد العشرين من عمرها، لتواجه حياة جديدة، تستعين عليها بروحها وقدرتها على التكيف السريع مع الأمور، التي لم تخل من مواقف عصيبة، بقدر ما أنهكتها، أكسبتها في الوقت ذاته خبرة، أصدقاء، وتقدير أثقل شخصيتها.

دقت ساعة الفراق

ظهرت نتيجة الثانوية العامة لطلاب عام 2011 “دفعة الثورة” كما تسميها “ندى”، خاضت الفتاة الامتحانات مثل غيرها من المصريين المقيمين بالسعودية، غير أن سرعان ما خالط الرعب مشاعر الفرحة بالمجموع؛ أعلنت الابنة عن رغبتها في استكمال الدراسة الجامعية بمصر، فانقلب حال البيت “بابا مش قادر يتقبل فكرة أني أسافر، هروح فين في مصر، هقعد إزاي لوحدي”، باءت كل محاولات تنحيها عن قراراها بالفشل، وبحكمة الصغيرة “قلت لبابا لأمتى هتسيبني جنبك؟ مصيري هتجوز وهخلف وهبعد عنك”، أقنعت الابنة الكبرى والدها، بوجهة نظرها الموقنة، أن الحياة بالسعودية تمنح الخبرة النظرية، بينما تفتقد للخبرة العملية وهي ما تحتاجه.

كل المؤشرات منحت “ندى” اطمئنان نحو قرارها؛ وافق التنسيق رغبتها في الالتحاق بكلية رياض أطفال، الخيار الثاني بعد إعلام، الذي تمنته عقب ظهور نتيجتها بمجموع 92 % علمي، وجاء قبولها بجامعة الإسكندرية، المدينة التي أحبتها دون أن تراها، وأخيرا مباركة والدها للأمر وتشجيعه لها، حتى بعد رفضها تحويل أوراقها إلى جامعة المنصورة لتكون قريبة من معارفهم، الأمر الذي اعتبرته الفتاة “هدية ربنا”.

تيسرت الأمور رغم الصعوبات؛ فإقناع الأهل كان بمثابة أول باب موصد قد فُتح لـ”ندى”، ليليه أبواب متلاحقة، والمطلوب منها تجاوزها، فتأخير التنسيق صعب مهمة التقديم للسكن بالمدينة الجامعية، مقابل بديل وحيد متمثل بمنزل عم والدتها “جدي العزيز جدا” كما تصفه لكن يصعب الإقامة معه، فما كان مفر من البحث عن سكن خاص.

سكن المغتربات

بصحبة خالها وخالتها، يوم السبت بعد أسبوع من بدء الدراسة، أخذت تبحث “ندى” عن شقة مناسبة، ترتاح لها نفسيا أكثر من فخامة إمكانياتها حتى وجدتها؛ شقة بمنطقة محطة الرمل، تعلو مسجد القائد إبراهيم، كانت نافذتها بمثابة عين على ما يجري، مكنتها من معايشة العديد من الأحداث مطلع عام 2012 “كان الميدان الموازي لميدان التحرير”، مما أشبع حماس الفتاة، المتأججة بمشاعر الثورة، التي قامت بينما هي في السعودية بالصف الثالث الثانوي.

الليلة الأولى لـ”ندى” وحيدة داخل منزل “غريب” في بلد تهواه لكن لا تعرفه -بحكم إقامتها نحو 19 عاما بالسعودية، كانت الأصعب على نفس الفتاة، “كنت عايزة أعيط ومش قادرة، وده كان شيء سيء أوي”، لم يكن لديها بديل سوى التحمل، فهي مَن اتخذت القرار، حتى حينما طالبت خيلانها أن يتركوها اليوم الأول لتعتاد الأمر، الذي لم يكن أبدا هين.

الطعام كان المشكلة الأولى، التي واجهتها “ندى” بالسكن الخاص، فما كان أن تعتمد مريضة بالقولون على الطعام السريع، “كرهت المطاعم، وخروجات الأكل، كرهت فكرة الأكل لوحدي” تقولها الفتاة، التي تخطت ذلك، بالسفر بين الحين والأخر إلى خالاتها بالمنصورة، فتحظى طيلة أسبوع بالأكل المنزلي المحفوظ اللاتي يرسلونه معها، فضلا عن ذهابها إلى جدها نحو كل أسبوعين.

قدرة “ندى” على التأقلم وتكوين صداقات سريعا، جعلها تتعامل مع الصعوبات، لكن بعد صدمات تعرضت لها، لم تنته برؤيتها مبنى الكلية “كان وحش جدا ومتهالك وصغير.. مدرستي الثانوي كانت أفضل منه 10 أضعاف”، لتجد ما هو أكثر في السكن، حيث راودها السؤال الأول لها على أرض الوطن “هو ليه البنات في مصر فاضية أوي كده من جوه!”.

لم تكن لـ”ندي” مشكلة مع أخلاق زميلاتها بالغرفة، لكن مع تصرفات لم تجد لها تفسير، تتذكر تلك المرة التي عايرت بها زميلتها خطيبها “بأنه كان ليه تجارب قبلها وهي لأ”، وأن لكونها فتاة مؤدبة “من يومها”، وتحجبت “من بدري”، فضلا عن كونها صيدلانية، هو ما أهلها لتصبح خطيبة طبيب بشري مثله، وكذلك فضولية زميلاتها الشديدة، لدرجة تدخلهم في حياتها حد إحراجها بالسؤال، واضطرارها للإجابة، ومحاولتهم لفرض الوصاية الدينية عليها فيما يتعلق بما ترتديه، متغافلين تربيتها التي نشأت عليها بالسعودية، “كل ده كل بيسبب لي أزمة ثقافية” كذلك تصف الخريجة الحديثة شعورها عما كانت تلقاه من شركاء السكن.

الصحبة

الأشخاص في تجربة “ندى” كانوا نوعان، الأول مؤلم، والثاني مفرح، غير أنها تعلمت منهم جميعا، فحين جرحها حديث زميلاتها بالسكن عنها في غيابها، بأنها تحب صديق لها، فقط لشرائها قلم للعين –كحل-، وتأخرها قليلا عن ميعادها، ليس لشيء سوى معرفتها بصديقة جديدة، قادمة مثلها من السعودية، كانت أكبر عمرا، تعرفت من خلالها على أماكن للخروج، وسعدت كثيرا بذلك، لكنها اصطدمت باتهام زميلاتها، غير أن الموقف اكسبها أول خبرة حياتية “كان بداية أني اتعلم ارمي كلام الناس في البحر، كنت بعمل كده زمان، بس بقيت أكتر جرأة”.

اختلفت حياة “ندى” بعد الترم الأول بالدراسة، لم تعد بذات الرتابة والهدوء، الرحلة المعتادة من الكلية للبيت والعكس، الساعة المنضبطة على عودتها بالخامسة عصرا، عدم معرفتها لشيء عن البلد الذي تمنت رؤيته، حتى أن زيارة مكتبة الإسكندرية كان بالنسبة لها قمة الانبهار، فترة عصيبة مرت بها “مكنتش متزنة نفسية”، كانت أحيانا تغوص بها في السرير، تتدثر بالبطانية، وتدخل في نوبة بكاء، وأفكار يائسة “مش عايزة اتعلم أنا عايزة بابا”، لكنها ما أفصحت يوما لأبيها عما تلاقيه، طالما أخبرته عبر الهاتف أنها بخير، فيما كانت تحول الحزن إلى لحظة سعيدة وبالوسيلة ذاتها “كنت بنزل تحت البطانية وأخذ اللابتوب واتفرج على أفلام ودي كانت متعة جميلة جدا”.

الأصدقاء هم التغيير الذي أعاد لـ”ندى” الحياة مرة أخرى؛ تلك الشابة التي عرفتها الكثير عن الأماكن، حتى صارت ذات خبرة جيدة بالتعامل مع “المشروع”- اسم عربات الميكروباص في الإسكندرية-، خاصة بعد أن أصبحت شريكتها بالسكن، حين عرضت عليها الانتقال للشقة التي تسكنها مع جدتها، “كان تحول غريب” كما تقول الفتاة العشرينية، بدءً من موافقة والدها، ومرورا بمنزل صديقتها المحفوف بالمشاكل، حتى قررت “ندى” العودة إلى سكنها مرة أخرى، بعد شعورها بأنها تؤذي بوجودها رفيقتها، التي تأثر مستواها الدراسي، فضلا عن عدم قدرتها على مساعدتها في مشاكلها.

بين العناء والراحة

عامان من التخبط كما تصف “ندى” لكن بالنسبة لها كان أساس للتماسك باقي سنوات الدراسة، التي كان الأصدقاء سبب أيضا في عودة الميزان لها؛ فكانت ذكرى ميلادها العشرين في أغسطس 2013 سبب لسعادة عوضتها عن الكثير “تعرفت في الفترة دي على شخصيتين هم أصدقائي الحاليين، واللي خلوا آخر سنتين جمال جدا”، وزاد من شعورها بالفرح، حين لحقت بها شقيقتها، بمشيئة قدرية وافق تنسيقها الكلية ذاتها، مع اختلاف قسم التخصص.

لم تعد “ندى” وحيدة الأهل، وجدت في شقيقتها عزاء لغيابها عن أسرتها، ورفيق للعودة إلى السعودية بالإجازة الصيفية، وكذلك شريك للمكان الثالث للإقامة، حين تيسر لهم عن طريق سيدة تعمل بالمدينة الجامعية، الانتقال في الترم الثاني من العام الدراسي 2013 للقسم الخاص من السكن الجامعي، كانت فترة “مريحة” كما تصف “ندى”، وكذلك وسيلة لاكتشاف كيفية تعامل “الحكومة” مع الطلاب القادمين من الخارج، حيث دفعت أختها 2500 جنيه مقابل السكن “بياخدوا المبلغ ده من أي طالب جاي معادلة”، فيما كان مرور عامين على وجودها هي بالدراسة حائل لعدم دفعها “اعتبروني طالبة مصرية”.

استمرار حياة المغتربة عن الأهل، في مكان مختلف، يعني استمرار المفاجئات، التي تُلزمها على التعامل معها، وهو ما لاقته “ندى” حين اطمأنت واستقرت لوجود مكان “مريح” وقريب من الجامعة، يحتضنها وشقيقتها، فعادت بالصيف لتقدم طلب إقامة بالمدينة الجامعية، لم تصدق ما قالته بعض زميلاتها مع اقتراب العام الدراسي الجديد، بأنه تم قبول وفد طالبات من ماليزيا، وسيتم تسكينه، مقابل قبول الطالبات المصريات الحاصلة على امتياز فقط، “ده مخالف للقواعد، كان من حق أي بنت تقعد مهما كان تقدير زي القسم العادي بالمدينة حتى لو شايلة مواد بس تدفع مبلغ على كل مادة” هذا ما كانت تعلمه “ندى” قبل أن تفاجأ بمنعهما من دخول السكن ليلة اليوم الأول للدراسة، ولم تجد الأخت الكبيرة مفر من السفر إلى أقاربهم بالمنصورة، حتى وصلت بعد عناء لسكن جديد “السكن قليل جدا في إسكندرية والأسعار مش بتناسب الخدمات” ولهذا السبب وصلت إلى شقة قريبة من الكلية بصعوبة وبمقابل مالي مرتفع.

سكة سفر

“الوضع في مصر بقى مرهق جدا وأنا مش عايزة أخسر روحي” تقولها “ندى”، وقد اتخذت القرار بالعودة إلى الموطن الثاني، كما سبق أن فعلت عندما رجعت إلى مصر، حينها أقسمت ألا تغادر “وقلت بلدي أولى بيا”، لكن لم تفلح محاولتها لتنفيذ ذلك، بالبحث عن عمل، حيث كانت صدمتها الأخيرة “المرتبات ضعيفة جدا ما بين 300 -700 جنيه”، فيما كان يتطلب إيجار السكن نحو 2000 جنيه. كل الأمور دفعت “ندى” للعدول عن موقفها، فإن لم تستطع إيجاد ما يشبع روحها لأداء شيء مهم بمصر، فهناك مكان أخر تحمل له الفتاة شعور برد الجميل “قررت أأدي واجبي للسعودية وأعلم ولادها مقابل التعليم اللي اتعلمته بدون أي مقابل”.

2015_9_23_13_35_15_701