جريدة المجالس

عالمك الالكترونى لكل ما هو جديد معانا هتقدر تعرف كل الاخبار المحلية و الدولية من رياضية و سياسية و اقتصادية.

منوعات

كيف تركت شمس أغسطس أثرها في حياة “زويل”؟

2016_8_4_11_30_1_261

كانت حرارة أغسطس المعهودة، تلفح وجه معيد كلية العلوم أحمد زويل، بمطار القاهرة، بينما يمسك بيد عروسه، ليستقلا الطائرة المتجهة إلى مطار فيلاديلفيا. لأمريكا لمعت عينا الشاب ابن الثالثة والعشرين عاما بمستقبل يراه ملئ البصر، وأحلام تراوده، عمل لها حتى أنه لم ينتظر سوى مرور يومين على زواجه من “ميرفت” طالبة العلوم التي كانت تصغره بعام. في الرابع والعشرين من الشهر الصيفي، عام 1969، هبط “زويل” أرض “المروج الخضراء” كما تخيلها صبيا، وتنسم صدره لأول مرة رطوبة أغسطس الأمريكي، لكنه “لم يكن مريحا” كما وصفه.. ما بين “أغسطس” البداية، والنهاية التي سُطرت مساء أمس بوفاة عالم “نوبل” المصري، اختار “زويل” الرحيل مرة أخرى، لكن في رحلة، لا عودة منها، ولا تبديل في الحزن المصاحب إلا لوداع نهائي. إلى مصر اتخذ “زويل” قراره، باستقلال الطائرة للمستقر الأخير، كما كان منها مرتحله إلى “أرض الأحلام”.

47 عاما مرت على رحلة بداية العالم المصري، إلى حيث شغف العقل لينهل من العلم. لم يرغب حينها بالعودة بأقل مما يُرضي النفس، رغم اختلاجها بين رغبة البقاء بالوطن، والحلم المندفع بلا روية. ابتلع حينذاك الحزن البادي في أحضان أسرته، ودموع والدته، التي ما كان لها أن تنهمر همّا، وقد مر ليلتين فقط على زفاف ابنها الوحيد بين شقيقات ثلاثة.

ظُهر الرابع والعشرين من أغسطس عام 1969، بتمام الساعة 4:25 دقيقة استقبل مطار فيلاديلفيا الأمريكي، خطى “زويل” وزوجته “ميرفت”. بالدقيقة أخذ يُسجل “زويل” تفاصيل حياته قبل “نوبل” في كتاب “عصر العلم”، بدا ذلك طابعا فيمن أحدث طفرة علمية باكتشافه الوحدة الزمنية “فيمتو ثانية” لحركة الجزيئات.

على متن طائرة شركة الطيران الأمريكية TWA، التي استقلها صباح الثالث والعشرين من أغسطس، أيقن “زويل” أن بداية الحلم تحقق، بعد مشقة الحصول على منحة الدراسة بجامعة بنسلفانيا، أقل ما فيها حمله بريد رئيس جامعة الإسكندرية بمعاونة فراش مكتبه، من أجل لقائه، ومطالبته بالتوقيع على أوراق سفره. ابتسامة أمل لم تغادره “من شدة تأثري وانفعالي وتفاؤلي أيضا لم أفكر في المسؤوليات الجسام التي ألقيت على عاتقي منذ تلك اللحظة فصاعدا” يقول حامل “نوبل”، فيما كان يتابع خلال تلك الساعات فيلم “رعاة البقر”، ومشاهد الصراع العنيف الناجم عن اندفاع الأمريكيون غربا للبحث عن الذهب، مسجلا أول ملاحظاته “الذين ذهبوا إلى الغرب الأمريكي وجمعوا الذهب قد دفعوا ثمنا غاليا في سبيل ذلك”.

بينما تعبر الطائرة فوق المحيط الأطلنطي، انتشى “زويل” أملا، ليميل على زوجته هامسا “نحن ذاهبون لوحدنا ولكن إلى أرض الفرص”، كذلك كانت أمريكا بالنسبة له، مخيلته بعيدة عن المصاعب، لا تفكر إلا في المستقبل، لا ما هو متوافر، ويعينها على ذلك، قليل مما باليد من أشياء، كالدليل الأنيق لجامعة بنسلفانيا، الذي لم يصور الجامعة وأمريكا بأقل مما تخيلها من حسن وبهاء “خرجنا من المطار متوقعا أننا سندخل جنات عدن التي بشرنا بها دليل الجامعة غير أنني رأيت مقبرة للسيارات القديمة والمحطمة”.

قال “زويل” في كتابه الراصد لمستهل مشواره العلمي، إن انطباعاته الأولى عن أمريكا كانت “نسبية بعيدة عن الواقع”، وهو ما أدركه بعد ذلك بدوام طوافه حول العالم. لكنه لم ينس ذكر تفاصيل الاستقبال الأول، بدءً من دقة النظام وسير العمل، ونظرات الود والترحاب في وجه ضابط الجوازات، أول مَن يتعامل مع الوافدين لأمريكا، وطالبي الدراسات العليا، الموفدين من مكتب شؤون الطلاب الأجانب بالجامعة لتقديم العون له، ولم يغفل “زويل” حتى أسمائهم وجنسياتهم وميعاد وصولهم.

حرارة الجو أكثر ما لفت انتباه “زويل” بمجرد أن وطئت قدماه أرض أمريكا، بعدما خرج من الصالة المكيفة الهواء بالمطار، إذ جاءت صدمة العالم المصري الأولى، بتذكره حال الأشجار الوارفة والمروج الخضراء التي طالما تخيلها وأكد عليها دليل الجامعة ليصبح سؤاله الأول على أرض الأحلام “ألكي تصبح الجنة جنة يجب أن تكون في مثل هذه الحرارة والرطوبة؟”.

لم يجد “زويل” حرجا من تذكر انجليزيته “المكسرة” حينما سافر لأمريكا، مقابل زوجته، خريجة المدرسة الأمريكية، دائمة تدوين الملاحظات طيلة الرحلة، بل يضفي عليه مواقف طريفة، تعرض لها منذ استقراره بها، متذكرا “مسز هيرلي” صاحبة العقار، الذي سكنا به، وكيف زاد حديثه معها “الطين بلة” بينما يتفقدوا الشقة، إذ لم تكن قد تقابلت السيدة الأمريكية من قبل مع مصريين، فحينما وقفوا أمام الثلاجة، أخذت تستفيض في شرحها لهم بأنها المكان المخصص لحفظ الطعام، وحين قال “زويل” لها “سيدتي نحن من مصر”، لم تلتفت له، ليفيض الكيل به ويقاطعها منفعلا “إننا في مصر لدينا ثلاجات”.

كان “زويل” دقيقا حال العلماء، وبشريا حال الجميع، يخطئ مرة، ويصيب أخرى، يحسب للأمور حسابها، وأحيانا يندفع دون تخطيط دقيق، وفي ارهاصات الرحلة ينطبق الحال الأخير على الزواج الأول للعالم المصري. “في الحقيقة لقد تعجلنا، بل ركضنا لإتمام الزواج ولم يكن هناك وقت كاف لأن يتعرف كل منا على الآخر، وحتى التواد كان يجري بيننا بطريقة رسمية” يقول “زويل” معترفا في كتابه “عصر العلم” أن الأمور لم تكن بحسابات العلماء حين عقد قرانه الأول أغسطس 69، واصفا حاله بأنه كان “في عجلة من أمره حتى تصحبني زوجتي في السفر لأمريكا”، غير أن الاجلال والاحترام ظل يحاوط علاقتهما حتى الانفصال في السبعينات “عندما أيقن كل منا أننا لم نكن على قدر من الانسجام كما صورته لنا أحلامنا الوردية” حسبما قال.

رغم مشقة التعامل بأمريكا، وتثبيط الهمم، غير أن “زويل” لم يعد من “أرض الأحلام”، إلا وهو ممسكا بحلمه، ما بذل في سبيله، وقتا وجهدا، محتملا فراق لأهل ووطن، لم يخفف عنه فيه إلا صوت “أم كلثوم” يأتيه بكل مكان، متهاديا. انشغل بالعلم والعمل، دون استعجال النتائج. فجاءه التكريم بكل مكان طوعا، وتقدير البسطاء لما يقوم به زخما، وإن لم يفهموا تفاصيله. ورغم عدم علمه أن “أغسطس” سيحمل طي صفحة عالم مصري، لا ينكر أحد فضله علميا، إلا أن وصيته بأن يدفن في مصر جاءت متسقة مع شغف البدايات، كأنما محارب أراد العودة من حيث تعلمت الخطى وهج شمس الترحال.